كان العرب يشربون الخمر ويتغنون بها ، ويفخرون بشربها ، إلى أن جاء الإسلام فحرّمها تدريجياً إذ ْكانت نفوسهم عالقة بها ، راغبة فيها .
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُحذر منها – فآثارها في المجتمع مدمرة – وضرب على ذلك مثلاً من الأمم السابقة ، وسماها " أم الخبائث ، فأعلن :
أن الصالحين الأتقياء يحبون أن يكون الناس كلهم كذلك ، لِما يرون من جمال التقوى وآثاره الوضيئة على أصحابها ومن شايعهم ، وأن الفاسدين ليودّون أن يكون الناس كلهم فسفة كذلك ، لأنهم لا يستطيعون الفكاك من الموبقات ، فيغوصون في مستنقعاتها الآسنة ، ويتلطخون بها ، ولا يريدون أن يكونوا نشازاً في مجتمع نظيف ، يُشار فيه إليهم بأصابع الاتهام والتقزز والاستنكار ، فيجتهدون في نشر الرذائل في المجتمعات كي لا يشعروا بالدونيّة أمام أفراده .
وهذا ما كان في بني إسرائيل .. حيث عمّ الفساد في الطبقة الحاكمة التي يسمونها – هذه الأيام – " الطبقة الراقية " ، وعزّ عليهم أن يروا بينهم رجلاً متعبداً طاهراً يلسعهم بنظراته الناقدة ، " ويؤذي " فجورهم بعفافه ، وفسادهم بصلاحه !! فعملوا على أن يزلّ ، فيكونوا سواءً، ولكنْ كيف؟ كيف السبيل إلى الإيقاع به وجرّه إلى فتنة تقـْلب عاليه سافله ؟؟ واهتدَوا إلى النساء ، فإن فتنة بني إسرائيل كانت في النساء ، وهنّ كثير ، والغواية فنّ هنّ رباته ! ، فأعطِ القوسَ باريها ! .. وهكذا كان .
علقته امرأة تتقن فنّ الغواية ، فتقرّبت إليه مدّعية التقوى والهدى ، مظهرة العفة والطهر ، فلما صدّها أرسلت جاريتها تدعوه للشهادة ، فانطلق إليها غافلاً عمّا يُحاك ويُرسم ... فطفقت الجارية كلما أدخلتْه باباً أغلقـَتـْه دونهما .. لقد كان قصر المرأة فخماً على ما يبدو ، كبيراً حتى كثرت فيه الأبواب ! .. ودخل الصيد القفص وهو لا يدري أنه سعى إلى الفخ بقدميه ، ولو كان واعياً ما سعى إليها وحده .. وأي شهادة تكون وراء المغاليق ؟!! إن الشهادة تكون في أوضح الأماكن وأكثرها حركةً .. حتى وصل إلى تلك المرأة ، فوجدها في أجمل زينة وأبهى منظر .. فعلامَ كل هذا ، أهي عالقة به مستهامة؟
قد يكون إناء الخمر من مستلزمات الفجور ، فلِمَ يجد عندها غلاماً صغيراً ؟!.. إنها الدسيسة إذن؛ والاستدراج القسري .. وصدق حدسه .. ولكنْ بعد فوات الأوان .
قالت له بتحد واضح – فقد وقع بين يديها - : بين يديك ثلاث خيارات ، أيها التقيّ الورع!! لا بد من ذلك ، وإلا طار رأسك ، أو فضحناك بين الناس وكشفنا المستور .
نظر إليها يستفهم خياراتها دون أن ينبس ببنت شفة . .. قالت : إما أن تقع عليّ ( فيزني بها )، أو تشرب من هذه الخمرة كأساً ، أو تقتل هذا الغلام .. إنها خطة جهنمية ، لا مفر منها . .. خيّرته بين أمور ثلاثة ، أحلاها مرّ ، فماذا يفعل ؟.
أيزني المؤمن ؟ ! كلاّ ، كلاّ . أوَ يشرب الخمر ؟! لا، لا يشربها ، أيقتل النفس التي حرّمها الله ؟ ألف لا .. أيأبى أن يجيبها إلى ما خيّرَته ؟ إنّ قفل الأبواب ، الواحد تلْوَ الآخر ليدل على أن وراء هذه المرأة مَنْ خطّط ودبّر ، ولم تكن هذه المومس الفاجرة سوى أداة التنفيذ ... ماذا يفعل ؟.
وهو إذ لم يكن عاقلاً حين صدّق الجارية ، فدخل بسذاجة إلى القصر خانه عقله كذلك إذ ْ رضي الخيار بين هذه الأمور الثلاثة ، وكان عليه أن يرفض ذلك بقوة ، فخسارة الدنيا أهون من خسارة الآخرة . ولو اتقى الله حق تقاه لأنجاه الله تعالى كما أنجى الرجل الصالح جُرَيجاً في محنته ... لكن شيطانه زيّن له شرب الخمر ، فهو – على ظنّه – فساد لا يتعدّاه ، أما الزنا فجريمة مشتركة ، يربأ بنفسه عنها !! وقتل الغلام منكر ، لا يفكر فيه فضلاً عن اقترافه .. فليشربْ كأساً من الخمر ... إنها طلبت إليه أن يشرب كأساً واحدة .. فقط .. فليشربها ، ولْيستغفر الله بعد ذلك .. على هذا عزم ، وهذا ما قرره .
قال : فاسقيني من هذه الخمر كأساً .. فسقتـْه واحدة .. إن مسيرة ألف الميل تبدأ بخطوة واحدة ، لعبت الخمرة برأسه ، فقال : زيدوني فزادوه – حين لعبت الخمرة برأسه ما عاد يراها وحدها ، فخاطبها بصيغة الجمع – وما زال يطلب ، وما زالت تسقيه حتى ذهب عقله ، فزنى بها ، .. حين يضيع العقل تنتشي الشهوة ، وحين يضعف التفكير تتحرك النزوات .. والتفت ، فرأى الغلام ينظر إليه يرقبه ، وقد رآه يزني ، فمال عليه ، فقتله .
شرِبَ الخمرَ ، وزنى ، وقتل النفسَ البريئة ، فهل بقي له من الطهارة شيء ؟!! هل بقي له من الإيمان شيء؟!!
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا أن نتجنّب الخمر ، فإنها أم الكبائر ، ويقسم بالله : أن الإيمان لا يجتمع وإدمانَ الخمر في قلب إنسان ، فإذا كان الإيمانُ فلا خمر ... وإذا كان الخمرُ فلا إيمان ... إنها مفاصلة بين الحق والباطل .
ويؤكد صلى الله عليه وسلم ذلك ، فيُعلن :أنه ما من أحد يشربها ، فتقبل له صلاة أربعين ليلة ، ولا يموت وفي مثانته منها شيء إلا حُرّمتْ عليه الجنة ، وإن مات في الأربعين مات ميتة جاهلية . أرأيتم أسوأ من الخمر إذاً ؟!
ومع وضوح ضررها فإن الفاسدين يزيّنون للجاهلين شرب الخمر ، ويسمونها بغير اسمها ، فهي عندهم " الرّاح " وهي عندهم " المشروبات الروحية " .. يسمون الأشياء بغير اسمها .. وهذا دأب الفاسقين الفاسدين ....